فصل: فَصْلٌ: (الدَّعْوَى تَصِحُّ بِالْقَلِيلِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى



.فَصْلٌ: [إلزام الْقَاضِيَ بإحْضَارِ الْخَصْمِ]:

(وَمَنْ اسْتَعْدَاهُ) أَيْ: الْقَاضِي (عَلَى خَصْمٍ بِالْبَلَدِ) الَّذِي بِهِ الْقَاضِي أَيْ: طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُحْضِرَهُ لَهُ (بِمَا) أَيْ: شَيْءٍ (تَتْبَعُهُ التُّهْمَةُ؛ لَزِمَهُ) أَيْ: الْقَاضِيَ (إحْضَارُهُ) أَيْ: الْخَصْمِ (وَلَوْ لَمْ يُحَرِّرْ) الْمُسْتَعْدِي الدَّعْوَى نَصًّا، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ بَيْنَهُمَا مُعَامَلَةً؛ لِئَلَّا يُضَيِّعَ الْحُقُوقَ وَيُقِرَّ الظَّالِمَ، وَقَدْ يَثْبُتُ حَقُّ الْأَدْنَى عَلَى الْأَرْفَعِ بِغَصْبٍ أَوْ شِرَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا يُوَفِّيهِ ثَمَنَهُ، أَوْ إيدَاعٍ أَوْ إعَادَةٍ وَلَا يَرُدُّ إلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَعُدْ عَلَيْهِ ذَهَبَ حَقُّهُ، وَهَذَا أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ فَإِنَّهُ لَا نَقْضَ فِيهِ وَقَدْ حَضَرَ عُمَرُ وَأُبَيُّ عِنْدَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَحَضَرَ عُمَرُ وَآخَرُ عِنْدَ شُرَيْحٍ. وَلِلْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ أَنْ يُوَكِّلَ إنْ كَرِهَ الْحُضُورَ. (وَمَنْ طَلَبَهُ خَصْمُهُ) لِمَجْلِسِ الْحُكْمِ لَزِمَهُ الْحُضُورُ (أَوْ طَلَبَهُ حَاكِمٌ حَيْثُ يَلْزَمُهُ إحْضَارُهُ، بِخِلَافِ مُعْسِرٍ ثَبَتَ إعْسَارُهُ لِمَجْلِسِ الْحُكْمِ لَزِمَهُ الْحُضُورُ إلَيْهِ) وَلَا يُرَخَّصُ لَهُ فِي الْحَلِفِ، فَإِنْ حَضَرَ (وَإِلَّا أَعْلَمَ الْوَالِي بِهِ) أَيْ: بِامْتِنَاعِهِ مِنْ الْحُضُورِ لِيُحْضِرَهُ (وَمَتَى حَضَرَ) بَعْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْهُ؛ فَلَهُ تَأْدِيبُهُ عَلَى امْتِنَاعِهِ (بِمَا يَرَاهُ مِنْ كَلَامٍ وَكَشْفِ رَأْسٍ وَضَرْبٍ وَحَبْسٍ) لِأَنَّ التَّعْزِيرَ إلَى رَأْيِهِ.
تَنْبِيهٌ:
فَإِنْ اخْتَفَى مُسْتَعْدًى عَلَيْهِ بَعَثَ الْحَاكِمُ مَنْ يُنَادِي عَلَى بَابِهِ ثَلَاثًا بِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَحْضُرْ سَمَّرَ بَابَهُ وَخَتَمَ عَلَيْهِ؛ لِتَزُولَ مَعْذِرَتُهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ، وَسَأَلَ الْمُدَّعِي أَنْ يُسَمِّرَ عَلَيْهِ مَنْزِلَهُ وَيَخْتِمَهُ؛ أَجَابَهُ إلَيْهِ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ حَكَمَ عَلَيْهِ كَغَائِبٍ عَنْ الْبَلَدِ فَوْقَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ. (وَيُعْتَبَرُ تَحْرِيرُهَا) أَيْ: الدَّعْوَى فِيمَا إذَا اسْتَعْدَاهُ عَلَى (حَاكِمٍ مَعْزُولٍ مَنْ فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْأَكَابِرِ) ذَوِي الْمَنَاصِبِ كَالْخَلِيفَةِ وَالْعَالِمِ الْكَبِيرِ وَالشَّيْخِ الْمَتْبُوعِ وَكُلِّ مَنْ خِيفَ تَبْذِيلُهُ وَنَقْصُ حُرْمَتِهِ بِإِحْضَارِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ كَانَ بِالْبَلَدِ حَاكِمَانِ فَأَكْثَرُ وَاسْتَعْدَى أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ؛ لَمْ يَعِدْهُ حَتَّى يُحَرِّرَ دَعْوَاهُ بِأَنْ يَعْرِفَ مَا يَدَّعِيهِ (ثُمَّ يُرَاسِلُهُ) بَعْدَ تَحْرِيرِ الدَّعْوَى، وَيَسْأَلُهُ عَنْهَا صِيَانَةً لَهُ عَنْ الِامْتِهَانِ، فَإِنْ ذَكَرَ الْمُسْتَعْدِي أَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ حَقًّا مِنْ دَيْنٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ رِشْوَةٍ أَخَذَهَا مِنْهُ عَلَى الْحُكْمِ رَاسِلُهُ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْعُهْدَةِ لِتَوَجُّهِ الْحَقِّ عَلَيْهِ بِاعْتِرَافِهِ (فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْعُهْدَةِ) لِمَا ذُكِرَ؛ لَمْ يَحْتَجْ لِحُضُورٍ، وَإِلَّا يَخْرُجُ مِنْهَا أَحْضَرَهُ كَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعَيَّنَ طَرِيقًا إلَى اسْتِخْلَاصِ حَقِّ الْمُدَّعِي، وَإِنْ ادَّعَى عَلَى الْقَاضِي الْمَعْزُولِ الْجَوْرَ فِي الْحُكْمِ، وَكَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ بِدَعْوَاهُ أَحْضَرَهُ، وَحَكَمَ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، وَأَنْكَرَ الْقَاضِي دَعْوَاهُ؛ فَقَوْلُهُ بِلَا يَمِينٍ (وَلَا يُعْتَبَرُ لِإِحْضَارِ مَنْ) أَيْ: امْرَأَةٍ (تَبْرُزُ لِحَوَائِجِهَا) إذَا اسْتَعْدَى عَلَيْهَا (مَحْرَمٌ) لَهَا يَخْرُجُ مَعَهَا نَصًّا لِأَنَّهُ لَا سَفَرَ (وَغَيْرُ الْبَرْزَةِ) وَهِيَ الْمُخَدَّرَةُ الَّتِي لَا تَبْرُزُ لِحَوَائِجِهَا إذَا اسْتَعْدَى عَلَيْهَا تُوَكِّلُ كَمَرِيضٍ (وَنَحْوِهِ) مِمَّنْ لَهُ عُذْرٌ (وَإِنْ وَجَبَتْ) عَلَيْهَا (يَمِينٌ أَرْسَلَ) الْحَاكِمُ (مَنْ) أَيْ: أَمِينًا مَعَهُ شَاهِدَانِ يُحَلِّفُهَا بِحَضْرَتِهِمَا. (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى غَائِبٍ بِمَوْضِعٍ) مِنْ عَمَلِ الْقَاضِي (لَا حَاكِمَ بِهِ بَعَثَ) الْقَاضِي (إلَى مَنْ) أَيْ: ثِقَةٍ (يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُمَا) أَيْ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَطْعًا لِلنِّزَاعِ (فَإِنْ تَعَذَّرَ) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَنْ يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُمَا، أَوْ لَمْ يَقْبَلَاهُ (حَرَّرَ) الْقَاضِي (دَعْوَاهُ)؛ أَيْ: الْمُسْتَعْدِي؛ لِئَلَّا يَكُونَ مَا يَدَّعِيه لَيْسَ حَقًّا كَشُفْعَةِ جِوَارٍ وَقِيمَةِ كَلْبٍ (ثُمَّ أَحْضَرَهُ) الْقَاضِي (وَلَوْ بَعُدَ) مَكَانُهُ إذَا كَانَ (بِعَمَلِهِ) لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَإِلْحَاقُ الْمَشَقَّةِ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْلَى بِإِلْحَاقِهَا بِمَنْ يُنْفِذُهُ الْحَاكِمُ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِعَمَلِ الْقَاضِي لَمْ يَعُدَّ عَلَيْهِ. (وَمَنْ ادَّعَى قِبَلَ إنْسَانٍ شَهَادَةً؛ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ، وَلَمْ يُعَدَّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَحْلِفْ) خِلَافًا لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ. (وَمَنْ قَالَ لِحَاكِمٍ حَكَمْتَ عَلَيَّ) بِشَهَادَةِ (فَاسِقَيْنِ عَمْدًا فَأَنْكَرَ) الْقَاضِي (لَمْ يَحْلِفْ) لِئَلَّا يَتَطَرَّقْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ لِإِبْطَالِ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْحُقُوقِ بِذَلِكَ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، وَالْيَمِينُ إنَّمَا تَجِبُ لِلتُّهْمَةِ، وَالْقَاضِي لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا. (وَإِنْ قَالَ قَاضٍ مَعْزُولٌ عَدْلٌ لَا يُتَّهَمُ: كُنْتُ حَكَمْتُ فِي وِلَايَتِي لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا وَبَيَّنَهُ، وَهُوَ مِمَّنْ يُسَوَّغُ لَهُ الْحُكْمُ لَهُ كَغَيْرِ أَصْلٍ وَفَرْعٍ؛ قُبِلَ) قَوْلُهُ نَصًّا (وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ) الْقَاضِي (مُسْتَنَدَهُ فِي حُكْمِهِ) كَأَنْ يَقُولَ (حَكَمْت بِشَاهِدَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ أَوْ إقْرَارٍ، وَلَوْ أَنَّ الْعَادَةَ تَسْجِيلُ أَحْكَامِهِ وَضَبْطِهَا بِشُهُودِ) لِأَنَّ عَزْلَهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِ، كَمَا لَوْ كَتَبَ كِتَابًا إلَى قَاضٍ آخَرَ ثُمَّ عُزِلَ، وَوَصَلَ الْكِتَابُ بَعْدَ عَزْلِهِ؛ لَزِمَ قَبُولُ كِتَابِهِ، وَلِأَنَّهُ أَخْبَرُ بِمَا حَكَمَ بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ؛ أَشْبَهَ حَالَ وِلَايَتِهِ (مَا لَمْ يَشْتَمِلْ) الْحُكْمُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الْحَاكِمُ بَعْدَ عَزْلِهِ (عَلَى إبْطَالِ حُكْمِ حَاكِمٍ آخَرَ) فَلَا يُقْبَلُ إذَنْ (فَلَوْ حَكَمَ حَنَفِيٌّ بِرُجُوعِ وَاقِفٍ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَخْبَرَ حَنْبَلِيٌّ أَنَّهُ كَانَ حَكَمَ قَبْلَ حُكْمِ الْحَنَفِيِّ بِمُوجَبِ الْوَقْفِ؛ لَمْ يُقْبَلْ) إخْبَارُ الْحَنْبَلِيِّ بِالْحُكْمِ الْمَذْكُورِ، قَالَهُ الْقَاضِي مَجْدُ الدِّينِ.
قَالَ ابْنُ نَصْرِ اللَّهِ: وَهُوَ تَقْيِيدٌ حَسَنٌ يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْمُبْدِعِ وَهُوَ حَسَنٌ. (وَإِنْ أَخْبَرَ حَاكِمٌ حَاكِمًا) آخَرَ (بِحُكْمٍ أَوْ ثُبُوتٍ وَلَوْ فِي غَيْرِ عَمَلِهِمَا) أَوْ أَخْبَرَ أَنَّهُ فِي عَمَلِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ (قَبِلَ الْخَبَرُ، وَعَمِلَ بِهِ) الْمُخْبَرُ بِفَتْحِ الْبَاءِ إذَا بَلَغَ عَمَلَهُ، كَمَا لَوْ أَخْبَرَهُ بِحُكْمٍ بَعْدَ عَزْلِهِ، وَلَا يَقْبَلُ الْمُخْبَرُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَلَا يَعْمَلُ إذَا أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ كَذَا وَلَمْ يَحْكُمْ بِهِ (مَعَ حُضُورِ مُخْبِرٍ) بِكَسْرِ الْبَاءِ (وَهُمَا بِعَمَلِهِمَا) إذَا أَخْبَرَهُ بِالثُّبُوتِ عِنْدَهُ بِلَا حُكْمٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَنَقْلِ الشَّهَادَةِ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ (وَكَذَا إخْبَارُ أَمِيرِ جِهَادٍ وَأَمِينِ صَدَقَةٍ وَنَاظِرِ وَقْفٍ مُتَبَرِّعَيْنِ) فَيُقْبَلُ إخْبَارُ كُلٍّ مِنْهُمْ بَعْدَ عَزْلِهِ بِأَمْرٍ صَدَرَ مِنْهُ حَالَ وِلَايَتِهِ، كَمَا يُقْبَلُ فِي وِلَايَتِهِ. وَكُلُّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ إنْشَاءُ أَمْرٍ؛ صَحَّ إقْرَارُهُ بِهِ قَالَهُ فِي الِانْتِصَار.

.بَابُ طَرِيقِ الْحُكْمِ وَصِفَتِهِ:

أَيْ: كَيْفِيَّةِ الْحُكْمِ (طَرِيقُ كُلُّ شَيْءٍ) حُكْمٍ أَوْ غَيْرِهِ (مَا تُوُصِّلَ بِهِ إلَيْهِ) أَيْ: الشَّيْءِ. وَالْحُكْمُ لُغَةً الْمَنْعُ وَاصْطِلَاحًا (الْفَصْلُ) وَقَدْ لَا يَكُونُ خُصُومَةً كَعَقْدٍ دُفِعَ إلَيْهِ لِيَحْكُمَ بِهِ؛ فَهُوَ إلْزَامٌ لِلْعَمَلِ بِهِ؛ وَسُمِّيَ الْقَاضِي حَاكِمًا؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الظَّالِمَ مِنْ ظُلْمِهِ. (إذَا أُحْضِرَ إلَيْهِ) أَيْ: الْقَاضِي (خَصْمَانِ) اُسْتُحِبَّ أَنْ يَجْلِسَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد: (لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَضَى أَنْ يَجْلِسَ الْخَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيْ الْحَاكِمِ»). وَقَالَ عَلِيٌّ حِينَ خَاصَمَ الْيَهُودِيَّ دِرْعَهُ إلَى شُرَيْحٍ: لَوْ أَنَّ خَصْمِي مُسْلِمٌ لَجَلَسْتُ مَعَهُ بَيْنَ يَدَيْكَ. وَلِأَنَّهُ أَمْكَنُ لِلْحَاكِمِ فِي الْعَدْلِ بَيْنَهُمَا فَإِذَا جَلَسَا (فَلَهُ أَنْ يَسْكُتَ حَتَّى يَبْتَدِئَا) أَيْ: الْخَصْمَانِ بِالدَّعْوَى (وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: أَيُّكُمَا الْمُدَّعِي) لِأَنَّهُ لَا تَخْصِيصَ فِي ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا (وَمِنْ سَبَقَ بِالدَّعْوَى مِنْهُمَا نُطْقًا؛ قُدِّمَ) أَيْ: قَدَّمَهُ الْحَاكِمُ عَلَى خَصْمِهِ لِتَرْجِيحِهِ بِالسَّبَقِ؛ فَإِنْ قَالَ خَصْمُهُ أَنَا الْمُدَّعِي لَمْ يَلْتَفِتْ الْحَاكِمُ إلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: أَجِبْ عَنْ دَعْوَاهُ ثُمَّ ادَّعِ بَعْدُ مَا شِئْتَ (ثُمَّ) إنْ ادَّعَيَا مَعًا قُدِّمَ (مَنْ قُرِعَ) أَيْ: خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ؛ لِأَنَّهَا تُعَيِّنُ الْمُسْتَحِقَّ (فَإِذَا انْتَهَتْ حُكُومَتُهُ) أَيْ: الْأَوَّلِ (ادَّعَى الْآخَرُ) لِاسْتِيفَاءِ الْأَوَّلِ حَقَّهُ. (وَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى مَقْلُوبَةٌ) لِأَنَّ الْأَصْحَابَ عَرَّفُوا الْمُدَّعِيَ بِأَنَّهُ الَّذِي يُطَالِبُ غَيْرَهُ بِحَقٍّ يُذْكَرُ اسْتِحْقَاقًا عَلَيْهِ، وَلَا يَنْطَبِقُ هَذَا التَّعْرِيفُ عَلَى مَنْ ادَّعَى دَعْوَى مَقْلُوبَةً، وَهِيَ (بِأَنْ يَدَّعِيَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ لِيَأْخُذَ حَقَّهُ أَوْ لِيَسْتَحْلِفَهُ) سُمِّيَتْ مَقْلُوبَةً؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ فِيهَا يَطْلُبُ أَنْ يُعْطِيَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْمُدَّعِي فِي غَيْرِهَا يَطْلُبُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ فَانْقَلَبَ فِيهَا الْقَصْدُ الْمُعْتَادُ. (وَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى حِسْبَةٍ بِحَقِّ اللَّهِ) تَعَالَى كَعِبَادَةٍ مِنْ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ وَنَحْوِهَا وَحَدِّ زِنًا أَوْ شُرْبٍ (وَعِدَّةٍ وَكَفَّارَةٍ وَنَذْرٍ وَطَلَاقٍ وَنَحْوِهِ) كَيَمِينٍ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَجَزَاءِ صَيْدٍ قَتَلَهُ مُحْرِمًا أَوْ فِي الْحَرَمِ (وَتُسْمَعُ) بِلَا دَعْوَى (بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ، وَيَعْتِقُ، وَلَوْ أَنْكَرَ مَعْتُوقٌ) الْعِتْقَ الْمَشْهُودَ بِهِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَتُسْمَعُ بَيِّنَةٌ بِلَا دَعْوَى (بِحَقٍّ غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَوَقْفٍ) عَلَى فُقَرَاءَ أَوْ مَسْجِدٍ (وَوَصِيَّةٍ عَلَى فُقَرَاءَ أَوْ مَسْجِدٍ) أَوْ رِبَاطٍ وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهُ مُسْتَحِقُّهُ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، أَشْبَهَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى. وَتُسْمَعُ بَيِّنَةٌ بِلَا دَعْوَى بِوَكَالَةٍ (وَاسْتِنَادِ وَصِيَّةٍ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ خَصْمٍ مُسَخَّرٍ) وَلَوْ كَانَ بِالْبَلَدِ. وَلَا تُسْمَعُ (بَيِّنَةٌ) بِحَقِّ (آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ قَبْلَ دَعْوَاهُ) بِحَقِّهِ وَتَحْرِيرِهَا (وَلَا) تُسْمَعُ (يَمِينُهُ) أَيْ: الْمُدَّعِي (إلَّا بَعْدَهَا) أَيْ: الدَّعْوَى (وَبَعْدَ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ إنْ كَانَ) حَيْثُ يَقْضِي بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ (وَأَجَازَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَالْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ سَمَاعَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ لِحِفْظِ وَقْفٍ وَغَيْرِهِ بِالثَّبَاتِ بِخَصْمٍ مُسَخَّرٍ) أَيْ: يُنَصَّبُ لِيُنَازَعَ صُورَةً، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا سَمَاعَهُمَا لِذَلِكَ بِلَا خَصْمٍ.
قَالَ فِي الِاخْتِيَارَاتِ: الثُّبُوتُ الْمَحْضُ يَصِحُّ بِلَا مُدَّعًى عَلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرُهُ قَوْمٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَفَعَلَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْقُضَاةِ انْتَهَى.
وَأَمَّا فِي الْعُقُودِ وَالْأَقَارِيرِ وَغَيْرِهَا فَأَجَازَهُمَا الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِخَصْمٍ مُسَخَّرٍ يُظْهِرُ النِّزَاعَ، وَلَيْسَ مُنَازِعًا فِي الْحَقِيقَةِ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَأَمَّا عَلَى أَصْلِنَا وَأَصْلِ مَالِكٍ فَإِمَّا أَنْ تُمْنَعَ الدَّعْوَى عَلَى غَيْرِ خَصْمٍ مُنَازِعٍ؛ فَتَثْبُتُ الْحُقُوقُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا. وَإِمَّا أَنْ تُسْمَعُ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ وَيُحْكَمُ بِهَا بِلَا خَصْمٍ. وَذَكَرُهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ فِي مَوَاضِعَ؛ لِأَنَّا نَسْمَعُهُمَا عَلَى غَائِبٍ وَمُمْتَنِعٍ وَنَحْوِهِ كَمَيِّتٍ، وَكَذَا عَلَى الْحَاضِرِ فِي الْبَلَدِ فِي الْمَنْصُوصِ، فَمَعَ عَدَمِ خَصْمٍ أَوْلَى؛ فَإِنْ الْمُشْتَرِي مَثَلًا قَبَضَ الْمَبِيعَ وَسَلَّمَ الثَّمَنَ؛ فَلَا يَدَّعِي وَلَا يُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ سَمَاعُ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ وَحُكْمُهُ بِمُوجَبِهَا مِنْ غَيْرِ وُجُودِ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَمِنْ غَيْرِ مُدَّعٍ عَلَى أَحَدٍ، لَكِنْ خَوْفًا مِنْ حُدُوثِ خَصْمٍ مُسْتَقْبَلٍ وَحَاجَةِ النَّاسِ خُصُوصًا فِيمَا قَالَ فِيهِ شُبْهَةٌ أَوْ خِلَافٌ لِرَفْعِ مَا ذُكِرَ مِنْ الشُّبْهَةِ أَوْ الْخِلَافِ انْتَهَى.
الْمُنَقَّحُ: وَعَمَلُ النَّاسِ عَلَيْهِ أَيْ: عَلَى مَا قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِيمَا يَقَعُ مِنْ عُقُودِ الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْأَنْكِحَةِ وَغَيْرِهَا حَيْثُ يُرْفَعُ لِلْحَاكِمِ وَتَشَهَّدُ بِهِ الْبَيِّنَةُ؛ فَيَحْكُمُ بِهِ بِلَا خَصْمٍ، وَهُوَ قَوِيٌّ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ.
قَالَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ قُلْتُ: وَإِذَا حَكَمَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ كَانَ مُقَابِلًا لِمَا قَدَّمُوهُ؛ لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا.

.فَصْلٌ: [الدَّعْوَى تَصِحُّ بِالْقَلِيلِ]:

(وَتَصِحُّ الدَّعْوَى بِالْقَلِيلِ وَلَوْ لَمْ تَتْبَعْهُ التُّهْمَةُ) بِخِلَافِ الِاسْتِعْدَاءِ لِلْمَشَقَّةِ (وَيُشْتَرَطُ) لِصِحَّةِ الدَّعْوَى شُرُوطٌ: أَحَدُهَا (تَحْرِيرُهَا) لِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( «إنَّمَا أَقْضِي عَلَى مَا أَسْمَعُ»). وَلَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ عَلَيْهَا مَعَ عَدَمِ تَحْرِيرِهَا (فَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى بِدَيْنٍ عَلَى مَيِّتٍ ذَكَرَ مَوْتَهُ وَحَرَّرَ الدَّيْنَ بِذِكْرِ جِنْسٍ وَنَوْعٍ وَصِفَةٍ) وَقَدْرٍ وَحَرَّرَ التَّرِكَةَ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَفِي الْمُغْنِي (أَوْ أَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ تَرِكَةِ مُوَرِّثِهِ مَا يَفِي بِدَيْنِهِ) وَيُقْبَلُ قَوْلُ وَارِثٍ فِي عَدَمِ التَّرِكَةِ بِيَمِينِهِ، وَيَكْفِيه أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ مَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِ شَيْءٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يُخْلِفْ شَيْئًا، لِأَنَّهُ قَدْ يُخْلِفُ شَيْئًا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ؛ فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِيفَاءُ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي (كَوْنُهَا) أَيْ: الدَّعْوَى (مَعْلُومَةً) أَيْ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ لَيَتَمَكَّنَ الْحَاكِمُ مِنْ الْإِلْزَامِ بِهِ إذَا ثَبَتَ (إلَّا فِي وَصِيَّةٍ) بِمَجْهُولٍ بِأَنْ ادَّعَى أَنَّهُ وَصَّى لَهُ بِدَابَّةٍ أَوْ بِشَيْءٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ (وَإِلَّا فِي إقْرَارٍ) بِمَجْهُولٍ بِأَنْ ادَّعَى أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمُجْمَلٍ؛ فَتَصِحُّ، وَإِذَا ثَبَتَ طُولِبَ مُدَّعًى عَلَيْهِ بِالْبَيَانِ، وَإِلَّا فِي خُلْعٍ أَوْ طَلَاقٍ عَلَى مَجْهُولٍ كَأَنْ سَأَلَتْهُ الْخُلْعَ أَوْ الطَّلَاقَ عَلَى أَحَدِ دَوَابِّهَا، فَأَجَابَهَا، وَتَنَازَعَا.
قَالَ الْبُهُوتِيُّ: قُلْتُ: وَكَذَا جَعَلَ مِنْ مَالِ حَرْبِيٍّ إذَا سُمِّيَ مَجْهُولًا لِصِحَّتِهِ كَمَا سَبَقَ، فَتُسْمَعُ الدَّعْوَى بِهِ مَعَ جَهَالَتِهِ (فَلَا يَكْفِي قَوْلُهُ) أَيْ: الْمُدَّعِي (عَنْ دَعْوَى بِوَرَقَةٍ ادَّعَى بِمَا فِيهَا مُصَرِّحًا بِهَا، فَلَا يَكْفِي لِي عِنْدَهُ كَذَا حَتَّى يَقُولَ: وَأَنَا مُطَالِبُهُ بِهِ) ذَكَرُهُ فِي التَّرْغِيبِ قَالَ فِي الْفُرُوعِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ يَكْفِي الظَّاهِرُ، وَلَا يَكْفِي قَوْلُ مُدَّعٍ (أَنَّهُ أَقَرَّ لِي بِكَذَا، وَلَوْ) كَانَ الْمُقِرُّ بِهِ (مَجْهُولًا حَتَّى يَقُولَ) مُدَّعٍ: وَأُطَالِبُهُ بِهِ، أَوْ أُطَالِبُهُ بِمَا يُفَسِّرُهُ بِهِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى (مُتَعَلِّقَةً بِالْحَالِ، فَلَا تَصِحُّ) الدَّعْوَى بِدَيْنٍ (مُؤَجَّلٍ لِإِثْبَاتِهِ) لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الطَّلَبَ بِهِ قَبْلَ أَجَلِهِ (وَفِي التَّرْغِيبِ إلَّا إنْ خَافَ) الْمُدَّعِي (سَفَرَ الشُّهُودِ) أَوْ خَافَ سَفَرَ الْمَدْيُونِ؛ فَتَصِحُّ الدَّعْوَى حِينَئِذٍ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ حِفْظًا لِلْمَالِ. (وَتَصِحُّ الدَّعْوَى بِتَدْبِيرٍ وَكِتَابَةٍ وَاسْتِيلَادٍ) لِصِحَّةِ الْحُكْمِ بِهَا، وَإِنْ تَأَخَّرَ أَثَرُهَا. الشَّرْطُ الرَّابِعُ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى (مُنْفَكَّةً عَمَّا يُكَذِّبُهَا؛ فَلَا تَصِحُّ) الدَّعْوَى عَلَى شَخْصٍ (بِأَنَّهُ قَتَلَ أَوْ سَرَقَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةٍ وَسَنَةٍ دُونَهَا وَنَحْوِهِ) لِأَنَّ الْحِسَّ يُكَذِّبُهَا وَمِنْهُ لَوْ ادَّعَى أَنْ الْخَلِيفَةَ اشْتَرَى مِنْهُ حُزْمَةَ بَقْلٍ وَحَمَلَهَا بِيَدِهِ؛ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ. قَالَهُ فِي الْقَوَاعِد (وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ مُنْفَرِدًا، ثُمَّ ادَّعَى عَلَى آخَرَ الْمُشَارَكَةَ) فِي قَتْلِ أَبِيهِ (لَمْ تُسْمَعْ) الدَّعْوَى (الثَّانِيَةُ) لِأَنَّهُ كَذَّبَهَا بِدَعْوَاهُ الْأُولَى، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى الْآخَرُ الِانْفِرَادَ بِهِ؛ فَلَا تُسْمَعُ (وَلَوْ أَقَرَّ الثَّانِي) لِتَكْذِيبِهِ لَهُ أَوَّلًا (إلَّا أَنْ يَقُولَ الْمُدَّعِي غَلِطْتُ أَوْ كَذَبْتُ فِي الْأُولَى) فَتُقْبَلُ الثَّانِيَةُ؛ لِإِمْكَانِهِ، وَالْحَقُّ لَا يَعْدُوهُمَا، وَإِنْ أَقَرَّ لِزَيْدٍ بِشَيْءٍ ثُمَّ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ ذُكِرَ تَلَقِّيهِ مِنْهُ؛ سُمِعَ مِنْهُ مَا ادَّعَاهُ، وَطُولِبَ بِالْبَيَانِ؛ لِاحْتِمَالِ صِدْقِهِ، وَإِلَّا يَذْكُرُ تَلَقِّيهِ مِنْهُ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ لَهُ الْآنَ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَمْسِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ أَمْسِ؛ لِعَدَمِ التَّطَابُقِ. وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى (ذِكْرُ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ) لَعَيْنٍ أَوْ لِدَيْنٍ لِكَثْرَةِ سَبَبِهِ وَقَدْ يَخْفَى عَلَى الْمُدَّعِي (وَيُعْتَبَرُ تَعْيِينُ مُدَّعًى بِهِ) إنْ حَضَرَ (بِالْمَجْلِسِ بِإِشَارَةٍ) لِنَفْيِ اللَّبْسِ بِالتَّعْيِينِ، وَيُعْتَبَرُ (إحْضَارُ عَيْنٍ) مُدَّعًى بِهَا إنْ كَانَتْ (بِالْبَلَدِ وَأَمْكَنَ إحْضَارُهَا) بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ (لِتُعَيَّنَ) بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا نَفْيًا لِلَّبْسِ (وَيَجِبُ الْإِحْضَارُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ أَقَرَّ أَنَّ بِيَدِهِ مِثْلُهَا) أَنْ يُحْضِرَهُ، وَيُوَكِّلَ بِهِ حَتَّى يُحْضِرَهَا، فَمَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ بِغَصْبٍ نَحْوَ عَبْدٍ صِفَتُهُ كَذَا، أَوْ أَقَرَّ أَنْ بِيَدِهِ عَبْدًا كَذَلِكَ، وَأَنْكَرَ الْغَصْبَ، وَقَالَ: الْعَبْدُ مِلْكِي أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِإِحْضَارِهِ؛ لِتَكُونَ الدَّعْوَى عَلَى عَيْنِهِ (وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهَا) أَيْ: الْعَيْنُ الْمُدَّعَى بِهَا (بِيَدِهِ) أَيْ: الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِهَا (بِبَيِّنَةٍ أَوْ نُكُولٍ؛ حُبِسَ حَتَّى يُحْضِرَهَا) لِتَقَعَ الدَّعْوَى عَلَى عَيْنِهَا (أَوْ حَتَّى يَدَّعِيَ تَلَفَهَا؛ فَيُصَدَّقُ لِلضَّرُورَةِ) لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ (وَيَكْفِي ذِكْرُ الْقِيمَةِ) بِأَنْ يَقُولَ مُدَّعٍ: قِيمَتُهَا كَذَا حَيْثُ تَلِفَتْ، (وَإِنْ كَانَتْ) الْعَيْنُ الْمُدَّعَى بِهَا (غَائِبَةً عَنْ الْبَلَدِ، أَوْ) كَانَتْ (تَالِفَةً، أَوْ) كَانَتْ (فِي الذِّمَّةِ وَلَوْ غَيْرَ مِثْلِيَّةٍ) كَالْمَبِيعِ فِي الذِّمَّةِ بِالصِّفَةِ وَكَوَاجِبِ الْكِسْوَةِ (وَصَفَهَا مُدَّعٍ كَسَلَمٍ) بِأَنْ يَذْكُرَ مَا يَضْبِطُهَا مِنْ الصِّفَاتِ (وَالْأَوْلَى ذِكْرُ قِيمَتِهَا أَيْضًا) أَيْ: مَعَ وَصْفِهَا؛ لِأَنَّهُ أَضْبَطُ. وَفِي التَّرْغِيبِ يَكْفِي قِيمَةُ غَيْرٍ مِثْلِيٍّ، وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ، وَيَكْفِي فِي الدَّعْوَى بِنَقْدِهِ (ذِكْرُ قَدْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ) إنْ اتَّحَدَ، وَذِكْرُ (قِيمَةِ جَوْهَرٍ وَنَحْوِهِ) مِمَّا لَا يَصِحُّ فِيهِ سَلَمٌ؛ لِعَدَمِ انْضِبَاطِ صِفَاتِهِ. (وَمَنْ ادَّعَى دَارًا) غَائِبَةً عَنْ الْبَلَدِ (بَيَّنَ مَوْضِعَهَا وَحُدُودَهَا، فَيَدَّعِي أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ) الْمُدَّعَى بِهَا (بِحُقُوقِهَا وَحُدُودِهَا مِلْكِي وَأَنَّهُ غَصَبَنِيهَا أَوْ) هِيَ (بِيَدِهِ ظُلْمًا، وَأَنَا مُطَالَبُهُ بِرَدِّهَا، وَتَكْفِي شُهْرَةُ عَقَارٍ عِنْدَهُمَا) أَيْ: الْمُتَدَاعِيَيْنِ (وَعِنْدَ حَاكِمٍ عَنْ تَحْدِيدِهِ) لِحَدِيثِ الْحَضْرَمِيِّ وَالْكِنْدِيِّ وَيَأْتِي. (وَلَوْ قَالَ مُدَّعٍ: أُطَالِبُهُ بِثَوْبٍ غَصَبَنِيهِ قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ) فَيَرُدَّهُ إنْ كَانَ بَاقِيًا وَإِلَّا فَقِيمَتُهُ، أَوْ قَالَ: أُطَالِبُ بِثَوْبٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ (أَخَذَهُ مِنِّي لِيَبِيعَهُ بِعِشْرِينَ) وَأَبَى رَدَّهُ وَإِعْطَاءَ ثَمَنِهِ (فَيُعْطِينِيهَا)؛ أَيْ: الْعِشْرِينَ (إنْ كَانَ بَاعَهُ، أَوْ) يُعْطِينِي (الثَّوْبَ إنْ كَانَ بَاقِيًا) أَوْ يُعْطِينِي (قِيمَتَهُ) الْعَشَرَةَ (إنْ كَانَ تَلِفَ؛ صَحَّ) ذَلِكَ اصْطِلَاحًا مِنْ الْقُضَاةِ عَلَى قَبُولِ هَذِهِ الدَّعْوَى الْمُرَدَّدَةِ لِلْحَاجَةِ. (وَمَنْ ادَّعَى عَقْدًا، وَلَوْ غَيْرَ نِكَاحٍ) كَبَيْعٍ وَإِجَارَةٍ (ذَكَرَ شُرُوطَهُ لُزُومًا) لِلِاخْتِلَافِ فِي الشُّرُوطِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ صَحِيحًا عِنْدَ الْقَاضِي، فَلَا يَنَالُهُ الْحُكْمُ بِصِحَّتِهِ مَعَ جَهْلِهِ بِهَا (فَيَقُولُ فِي بَيْعٍ: اشْتَرَيْتُ مِنْهُ هَذِهِ الْعَيْنَ بِكَذَا، أَوْ هُوَ جَائِزُ التَّصَرُّفِ وَتَفَرَّقْنَا عَنْ تَرَاضٍ، وَكَذَا إنْ ادَّعَى عَقْدَ إجَارَةٍ) وَيَقُولُ (فِي) دَعْوَى (نِكَاحٍ تَزَوَّجْتهَا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَبِشَاهِدَيْ عَدْلٍ وَرِضَاهَا إنْ كَانَتْ لَا تُجْبَرُ) بِأَنْ لَا تَكُونَ لَا بِكْرًا وَلَا ثَيِّبًا دُونَ تِسْعِ سِنِينَ مَعَ أَبٍ أَوْ وَصِيِّهِ (وَلَا يَحْتَاجُ) أَنْ يَقُولَ (وَلَيْسَتْ مُرْتَدَّةً وَلَا مُعْتَدَّةً) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ (وَإِنْ كَانَتْ) الزَّوْجَةُ (أَمَةً) وَهُوَ حُرٌّ (ذَكَرَ عَدَمَ طَوْلٍ وَخَوْفَ عَنَتٍ) مَعَ الْوَلِيِّ وَشَاهِدَيْ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الشُّرُوطِ.
فَائِدَةٌ:
وَإِنْ ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ فَأَقَرَّتْ لَهُ بِهَا؛ سُمِعَ إقْرَارُهَا فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَالْغُرْبَةِ وَالْوَطَنِ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِحَقٍّ عَلَيْهَا؛ فَقُبِلَ إقْرَارُهَا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. (وَإِنْ ادَّعَى اسْتِدَامَةَ الزَّوْجِيَّةِ فَقَطْ)؛ أَيْ: وَلَمْ يَدَّعِ الْعَقْدَ (لَمْ يَحْتَجْ لِذِكْرِ شُرُوطِ الْعَقْدِ) لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالِاسْتِعَاضَةِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ مَعَهَا اجْتِمَاعُ الشُّرُوطِ. (وَيُجْزِئُ عَنْ تَعْيِينِ الْمَرْأَةِ) الْمُدَّعَى نِكَاحُهَا (إنْ غَابَتْ ذِكْرُ اسْمِهَا وَنَسَبِهَا، وَإِنْ ادَّعَتْ هِيَ) أَيْ: الْمَرْأَةُ (عَقْدَ النِّكَاحِ، وَادَّعَتْ مَعَهُ نَحْوَ نَفَقَةٍ أَوْ مَهْرٍ؛ سُمِعَتْ دَعْوَاهَا) لِأَنَّهَا تَدْعِي حَقًّا لَهَا، نُضِيفُهُ إلَى سَبَبِهِ؛ أَشْبَهَ سَائِرَ الدَّعَاوَى، وَلَا تَدَّعِي سِوَى النِّكَاحِ؛ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهَا؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا؛ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهَا بِحَقٍّ لِغَيْرِهَا. (وَمَتَى جَحَدَ) الزَّوْجُ (الزَّوْجِيَّةَ، وَنَوَى بِهِ) أَيْ: بِجَحْدِهِ (الطَّلَاقَ؛ لَمْ تَطْلُقْ) بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُ النِّكَاحَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ (وَيُتَّجَهُ)، وَلَوْ كَانَ جُحُودُهُ الزَّوْجِيَّةَ (بِلَفْظِ لَسْت لِي بِامْرَأَةٍ) أَيْ: مَعَ نِيَّةِ الطَّلَاقِ؛ لَمْ تَطْلُقْ، كَذَا قَالَ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ لَسْتِ لِي بِامْرَأَةٍ مِنْ الْكِنَايَاتِ الْخَفِيَّةِ، وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ أَنَّ الْكِنَايَةَ الْخَفِيَّةَ يَقَعُ بِهَا طَلْقَةٌ مَعَ النِّيَّةِ بِلَا نِزَاعٍ (لِأَنَّ الْجُحُودَ هُنَا) أَيْ: قَبْلَ الِاتِّجَاهِ (لِعَقْدِ النِّكَاحِ، لَا لِكَوْنِهَا امْرَأَتَهُ) وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ امْرَأَتَهُ بِعَدَمِ عَقْدٍ أَوْ لِبَيْنُونَتِهَا مِنْهُ؛ لَمْ تَحِلَّ لَهُ. (وَمَنْ ادَّعَى قَتْلَ مَوْرُوثِهِ ذَكَرَ الْمُدَّعِي الْقَتْلَ) وَكَوْنَهُ (عَمْدًا أَوْ شِبْهَهُ أَوْ خَطَأً، أَوْ يَصِفُهُ) لِاخْتِلَافِ الْحَالِ بِاخْتِلَافِ ذَلِكَ: فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ذِكْرِهِ، لِيَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ (وَذِكْرِ أَنَّ الْقَاتِلَ انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ أَوَّلًا) أَيْ: أَنَّهُ شُورِكَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَلَا يُمْكِنُ تَلَافِيهِ؛ فَوَجَبَ الِاحْتِيَاطُ فِيهِ. (وَلَوْ قَالَ) مُدَّعٍ إنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَدَّهُ أَيْ: مُوَرِّثَهُ (نِصْفَيْنِ، وَكَانَ حَيًّا) حِينَ قَدَّهُ أَوْ أَنَّهُ ضَرَبَهُ (وَهُوَ حَيٌّ) فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ صَحَّ فَيُطَالَبُ خَصْمُهُ بِالْجَوَابِ. (وَإِنْ ادَّعَى شَخْصٌ) عَلَى آخَرَ (إرْثًا: ذَكَرَ سَبَبَهُ) وُجُوبًا، لِاخْتِلَافِ أَسْبَابِ الْإِرْثِ، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ عَلَى سَبَبٍ مُعَيَّنٍ، فَكَذَا الدَّعْوَى. (وَإِنْ ادَّعَى مُحَلَّى بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ، وَكَانَ تَالِفًا، قَوَّمَهُ) بِالنَّقْدِ الْآخَرِ، فَإِنْ ادَّعَى مُحَلًّى بِذَهَبٍ؛ قَوَّمَهُ بِفِضَّةٍ، وَإِنْ ادَّعَى مُحَلًّى بِفِضَّةٍ؛ قَوَّمَهُ بِذَهَبٍ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ تَقْوِيمُهُ بِجِنْسِهِ إلَى الرِّبَا، قَالَ الْبُهُوتِيُّ قُلْتُ: وَكَذَا لَوْ ادَّعَى مَصُوغًا مِنْ أَحَدِهِمَا صِنَاعَةً مُبَاحَةً تَزِيدُ بِهَا قِيمَتُهُ أَوْ تِبْرًا تُخَالِفُ قِيمَتُهُ وَزْنَهُ (فَبِأَيِّهِمَا)، أَيْ: النَّقْدَيْنِ شَاءَ يُقَوِّمُ (لِلْحَاجَةِ) أَيْ: انْحِصَارِ الثَّمَنِيَّةِ فِيهِمَا (وَيُعْطَى بِقِيمَتِهِ عِوَضًا).

.فَصْلٌ: [إلزامُ الْحَاكِمِ بإحْضَارِ الْخَصْمِ]:

(وَإِذَا حَرَّرَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ؛ فَلِلْحَاكِمِ سُؤَالُ خَصْمِهِ) أَيْ: الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (ابْتِدَاءَ الْجَوَابَ) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَقُلْ الْمُدَّعِي لِلْقَاضِي سُئِلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ شَاهِدَ الْحَالِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَإِحْضَارَهُ وَالدَّعْوَى عَلَيْهِ تُرَادُ لِذَلِكَ (فَإِنْ أَقَرَّ) مُدَّعًى عَلَيْهِ بِالدَّعْوَى (لَمْ يُحْكَمْ لَهُ) أَيْ: الْمُدَّعِي (إلَّا بِسُؤَالِهِ) الْحَاكِمَ الْحُكْمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (لِأَنَّهُ حَقُّهُ) فَلَا يَسْتَوْفِيه الْحَاكِمُ إلَّا بِمَسْأَلَتِهِ (وَالْحُكْمُ أَنْ يَقُولَ الْحَاكِمُ قَدْ أَلْزَمْتُكَ ذَلِكَ، أَوْ قَضَيْتُ عَلَيْكَ لَهُ، أَوْ حَكَمْتُ بِذَلِكَ) أَوْ يَقُولَ أَخْرِجْ لَهُ مِنْ حَقِّهِ (وَإِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ وَقَعَ الْحُكْمُ لَازِمًا لَا يَجُوزُ) لِلْحَاكِمِ (الرُّجُوعُ فِيهِ) أَيْ: الْحُكْمِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ (نَقْضُهُ) حَيْثُ وَافَقَ الصَّوَابَ. وَإِنْ أَنْكَرَ الْخَصْمُ الدَّعْوَى بِأَنْ قَالَ مُدَّعٍ عَلَيْهِ لِمُدَّعٍ قَرْضًا أَوْ لِمُدَّعٍ ثَمَنًا: مَا أَقْرَضَنِي؛ أَوْ قَالَ: (مَا بَاعَنِي أَوْ قَالَ: لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ مَا ادَّعَاهُ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ، أَوْ قَالَ: لَا حَقَّ لَهُ عَلَيَّ؛ صَحَّ الْجَوَابُ) لِنَفْيِهِ عَيْنَ مَا ادَّعَى بِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا حَقَّ لَهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ كُلَّ حَقٍّ (مَا لَمْ يَعْتَرِفْ لَهُ بِسَبَبِ الْحَقِّ) فَلَا يَكُونُ قَوْلَهُ: لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى مَا ادَّعَاهُ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ وَمَا بَعْدَهُ جَوَابًا، فَلَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ مَهْرَهَا عَلَى مُعْتَرِفٍ بِزَوْجِيَّتِهَا، فَقَالَ: لَا تَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا؛ لَمْ يَصِحَّ الْجَوَابُ، وَلَزِمَهُ الْمَهْرُ إنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً بِإِسْقَاطِهِ، وَكَذَا لَوْ ادَّعَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةً أَوْ كِسْوَةً، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ قَرْضًا، فَاعْتَرَفَ بِهِ. وَقَالَ: لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا؛ لِثُبُوتِ سَبَبِ الْحَقِّ، وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ، وَلَمْ يُعْلَمْ مُزِيلُهُ (وَلِهَذَا) (لَوْ أَقَرَّتْ) مَرِيضَةٌ (بِمَرَضِهَا) مَرَضَ الْمَوْتِ الْمَخُوفِ (وَأَنْ لَا مَهْرَ لَهَا) عَلَى زَوْجِهَا (لَمْ يُقْبَلْ) مِنْهَا ذَلِكَ (إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَنَّهَا أَخَذَتْهُ) نَصًّا. نَقَلَهُ مُهَنَّا (أَوْ أَنَّهَا أَسْقَطَتْهُ عَنْهُ فِي الصِّحَّةِ) يَعْنِي غَيْرَ مَرَضِ الْمَوْتِ الْمَخُوفِ وَمَا أُلْحِقَ بِهِ. وَلَوْ قَالَ مُدَّعٍ لِمُدَّعًى عَلَيْهِ (لِي عَلَيْك مِائَةٌ) أُطَالِبَكَ بِهَا (فَقَالَ) الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (لَيْسَ لَك عَلَيَّ مِائَةٌ؛ اُعْتُبِرَ قَوْلُهُ) أَيْ: الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (وَلَا شَيْءَ مِنْهَا) لِأَنَّ نَفْيَ الْمِائَةِ لَا يَنْفِي دُونَهَا كَ (يَمِينٍ) فَيَحْلِفُ إذَا وُجِّهَتْ عَلَيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ مِائَةٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْهَا، وَلَا يَكْفِي الْحَلِفُ عَلَى نَفْيِ الْمِائَةِ (فَإِنْ نَكِلَ) عَنْ الْيَمِينِ (عَمَّا دُونَ الْمِائَةِ) بِأَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ مِائَةٌ، وَنَكِلَ أَنْ يَقُولَ وَلَا شَيْءٌ مِنْهَا (حُكِمَ لَهُ) أَيْ: لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (بِمِائَةٍ إلَّا جُزْءًا) مِنْ أَجْزَاءِ الْمِائَةِ. (وَمَنْ أَجَابَ مُدَّعِي اسْتِحْقَاقِ مَبِيعٍ بِقَوْلِهِ: مِلْكِي اشْتَرَيْته مِنْ زَيْدٍ مَثَلًا، وَهُوَ مِلْكُهُ؛ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ رُجُوعَهُ عَلَى زَيْدٍ بِالثَّمَنِ) أَيْ: ثَمَنِ الْمَبِيعِ الْمُسْتَحَقِّ إذَا أَثْبَتَهُ رَبُّهُ.
قَالَ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ وَهُوَ الصَّوَابُ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي جَاهِلًا وَالْإِضَافَةُ إلَى مِلْكِهِ فِي الظَّاهِرِ (كَمَا لَوْ أَجَابَ) مُشْتَرٍ (بِمُجَرَّدِ إنْكَارٍ) أَنَّهُ لَهُ (أَوْ اُنْتُزِعَ مِنْ يَدِهِ) أَيْ: الْمُشْتَرِي (بِبَيِّنَةِ مِلْكٍ سَابِقٍ) عَلَى شِرَائِهِ؛ فَيَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ فِيهِمَا بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ أَوْ اُنْتُزِعَ مِنْ يَدِهِ بِبَيِّنَةِ مِلْكِهِ (مُطْلَقٍ) عَنْ التَّارِيخِ فَيَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ. (وَلَوْ قَالَ) مُدَّعًى عَلَيْهِ (لِمُدَّعٍ دِينَارًا: لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ حَبَّةً؛ صَحَّ الْجَوَابُ، خِلَافًا لِابْنِ عَقِيلٍ) إذْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ حَبَّةً لَيْسَ بِجَوَابٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكْتَفَى فِي دَفْعِ الدَّعْوَى إلَّا بِنَصٍّ لَا بِظَاهِرٍ (وَيَعُمُّ الْحَبَّاتِ)؛ أَيْ: حَبَّاتِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ؛ فَتَعُمُّ (وَيَعُمُّ مَا لَمْ يَنْدَرِجْ فِي لَفْظَةِ حَبَّةٍ) أَيْ: مَا دُونُهَا (مِنْ بَابِ الْفَحْوَى) أَيْ: الظَّاهِرِ مِنْ عَرْضِ الْكَلَامِ، أَوْ يَعُمُّ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً؛ إذْ الظَّاهِرُ مِنْهُ نَفْيُ اسْتِحْقَاقِ شَيْءٍ مِنْ الدِّينَارِ. وَلَوْ قَالَ مُدَّعًى عَلَيْهِ (لَك عَلَيَّ شَيْءٌ فَقَالَ) الْمُدَّعِي لَيْسَ عَلَيْك شَيْءٌ، وَإِنَّمَا لِي عَلَيْك أَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ دَعْوَى الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ نَفَاهَا بِنَفْيِ الشَّيْءِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ (لَكَ عَلَيَّ دِرْهَمٌ، فَقَالَ: لَيْسَ لِي عَلَيْك دِرْهَمٌ وَلَا دَانِقٌ، بَلْ) لِي عَلَيْكَ (أَلْفٌ) قُبِلَ مِنْهُ دَعْوَى الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى نَفْيِهِ لَيْسَ حَقِّي هَذَا الْقَدْرَ، وَلَوْ قَالَ: لَيْسَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ إلَّا دِرْهَمٌ؛ صَحَّ ذَلِكَ. قَالَهُ الْأَزَجِيُّ. وَإِنْ قَالَ مُدَّعًى عَلَيْهِ (إنْ ادَّعَيْت أَلْفًا بِرَهْنِ كَذَا لِي بِيَدِكَ أَجَبْتُ أَوْ إنْ ادَّعَيْت هَذَا الَّذِي ادَّعَيْته ثَمَنَ كَذَا بِعْتنِيهِ وَلَمْ أَقْبِضْهُ فَنَعَمْ، وَإِلَّا فَلَا حَقَّ لَك عَلَيَّ فَجَوَابٌ) صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى قَيْدٍ يُحْتَرَزُ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ، مُنْكِرٌ لَهُ فِيمَا سِوَاهُ. قَالَهُ فِي شَرْحِ الْمُحَرَّرِ (لَا إنْ قَالَ) مُدَّعًى عَلَيْهِ (لِي مَخْرَجٌ مِمَّا ادَّعَاهُ) فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ ذَلِكَ جَوَابًا صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ (وَلِمُدَّعٍ) أَنْكَرَ خَصْمُهُ (أَنْ يَقُولَ لِي بَيِّنَةٌ) لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُهَا (وَلِلْحَاكِمِ) إنْ لَمْ يَقُلْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ (أَنْ يَقُولَ أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟) لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَضْرَمِيٌّ وَكِنْدِيٌّ، فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ هِيَ أَرْضِي وَفِي يَدِي، فَلَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَضْرَمِيِّ أَلَك بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ فَلَكَ يَمِينُهُ» وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (فَإِنْ قَالَ) مُدَّعٍ سَأَلَهُ حَاكِمٌ أَلَك بَيِّنَةٌ؟ (نَعَمْ قَالَ لَهُ الْحَاكِمُ: إنْ شِئْت فَأَحْضِرْهَا، فَإِنْ أَحْضَرَهَا لَمْ يَسْأَلْهَا) الْحَاكِمُ عَمَّا عِنْدَهَا حَتَّى يَسْأَلَهُ الْمُدَّعِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِلَا إذْنِهِ (وَلَمْ يُلَقِّنْهَا) الْحَاكِمُ الشَّهَادَةَ، بَلْ إذَا سَأَلَهُ الْمُدَّعِي سُؤَالَهُ الْبَيِّنَةَ قَالَ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ فَلْيَذْكُرْهَا إنْ شَاءَ، وَلَا يَقُولُ لَهُمَا: اشْهَدَا؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ، وَكَانَ شُرَيْحٌ يَقُولُ لِلشَّاهِدَيْنِ: مَا أَنَا دَعَوْتُكُمَا وَلَا أَنْهَاكُمَا أَنْ تَرْجِعَا، وَمَا يَقْضِي عَلَى هَذَا الْمُسْلِمِ غَيْرُكُمَا، وَإِنِّي بِكَمَا أَقْضِي الْيَوْمَ، وَبِكَمَا أَتَّقِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ (فَإِذَا شَهِدَتْ) عِنْدَهُ الْبَيِّنَةُ (سَمِعَهَا، وَلَزِمَهُ فِي الْحَالِ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا بِسُؤَالِ مُدَّعٍ، وَحَرُمَ) عَلَيْهِ (تَرْدِيدُهَا، وَيُكْرَهُ) لَهُ (تَعَنُّتُهَا) أَيْ: طَلَبُ زَلَّتِهَا (وَانْتِهَارُهَا) أَيْ: زَجْرُهَا؛ لِئَلَّا يَكُونَ وَسِيلَةً إلَى الْكِتْمَانِ، وَلَا يُكْرَهُ (قَوْلُهُ) أَيْ: الْحَاكِمِ (لِمُدَّعًى عَلَيْهِ أَلَك فِيهَا دَافِعٌ أَوْ مَطْعَنٌ؟) بَلْ يُسْتَحَبُّ قَوْلُهُ قَدْ شَهِدَا عَلَيْك، فَإِنْ كَانَ لَكَ قَادِحٌ فَبَيِّنْهُ لِي. وَقَيَّدَهُ فِي الْمُذَهَّبِ وَالْمُسْتَوْعِبِ بِمَا إذَا ارْتَابَ فِيهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِقَادِحٍ (وَاتَّضَحَ) لِلْحَاكِمِ (الْحُكْمُ، وَكَانَ الْحَقُّ لِمُعَيَّنٍ وَسَأَلَهُ)؛ أَيْ الْحَاكِمُ (الْحُكْمَ؛ لَزِمَهُ) الْحُكْمُ فَوْرًا، وَلَا يَحْكُمُ بِدُونِ سُؤَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. (وَلَا يَحْلِفُ مُدَّعٍ مَعَ إقَامَةِ بَيِّنَةٍ) لِلِاسْتِغْنَاءِ بِهَا عَنْ الْيَمِينِ. (وَيَحْرُمُ الْحُكْمُ وَلَا يَصِحُّ مَعَ عِلْمِهِ بِضِدِّهِ) أَيْ: ضِدِّ مَا يَعْلَمُهُ، بَلْ يَتَوَقَّفُ (أَوْ مَعَ لَبْسٍ قَبْلَ الْبَيَانِ) وَيَأْمُرُ بِالصُّلْحِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاك اللَّهُ} وَمَعَ عِلْمِهِ بِضِدِّهِ أَوْ اللَّبْسِ لَمْ يَرَهُ شَيْئًا يَحْكُمُ بِهِ. (وَيَحْرُمَ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ) أَيْ: الْحَاكِمِ (لِتَرْكِهِ تَسْمِيَةَ الشُّهُودِ) قَالَ فِي الْفُرُوعِ وَذَكَرَ شَيْخُنَا أَنَّ لَهُ طَلَبَ تَسْمِيَةِ الْبَيِّنَةِ؛ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْقَدْحِ بِالِاتِّفَاقِ (وَيَتَوَجَّهُ مِثْلُهُ حَكَمْتُ بِكَذَا، وَلَمْ يَذْكُرْ مُسْتَنَدَهُ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ أَوْ نُكُولٍ) فَيَحْرُمُ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ (لِذَلِكَ). (وَلَهُ الْحُكْمُ بِبَيِّنَةٍ وَبِإِقْرَارٍ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ) (وَيُتَّجَهُ احْتِمَالُ) الْحُكْمِ بِبَيِّنَةٍ (لَا) أَيْ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ (فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ مَحَلِّ عَمَله) عِنْدَ انْفِرَادِهِ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ، بَلْ إذَا كَانَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ حُكْمٍ فَلَا بُدَّ مِنْ سَمَاعِ غَيْرِهِ دَفْعًا لِلرِّيبَةِ وَهُوَ مُتَّجَهٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ (وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ غَيْرُهُ) نَصًّا نَقَلَهُ حَرْبٌ؛ لِأَنَّ مُسْتَنَدَ قَضَاءِ الْقَاضِي هُوَ الْحُجَجُ الشَّرْعِيَّةُ، وَهِيَ الْبَيِّنَةُ أَوْ الْإِقْرَارُ، فَجَازَ الْحُكْمُ بِهِمَا إذَا سَمِعَهُمَا فِي مَجْلِسِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ أَحَدٌ؛ لِمَا رَوَتْ أُمُّ مَسْلَمَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ؛ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّار» رَوَاه الْجَمَاعَةُ. فَجَعَلَ مُسْتَنَدَ قَضَائِهِ مَا سَمِعَهُ لَا غَيْرَهُ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ غَيْرِهِ فَبِسَمَاعِهِ أَوْلَى، وَلِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى ضَيَاعِ الْحُقُوقِ. وَلَا يَحْكُمُ قَاضٍ (بِعِلْمِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ) الْمَسْأَلَةِ (وَفِي افْتِيَاتٍ عَلَيْهِ كَمَا مَرَّ) وَلَوْ فِي غَيْرِ حَدٍّ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ: ( «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا جَهْمٍ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَاحَاهُ رَجُلٌ فِي فَرِيضَةٍ؛ فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا شِجَاجٌ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ الْأَرْشَ، ثُمَّ قَالَ: إنِّي خَاطِبٌ وَمُخْبِرُهُمْ أَنَّكُمْ قَدْ رَضِيتُمْ أَرَضِيتُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَر الْقِصَّةَ، وَقَالَ أَرَضِيتُمْ؟ قَالُوا: لَا، فَهَمَّ بِهِمْ الْمُهَاجِرُونَ فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ صَعِدَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ أَرَضِيتُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ») رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيُّ هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْخُذْ بِعِلْمِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ رَأَيْتُ حَدًّا عَلَى رَجُلٍ لَمْ آخُذْهُ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ. وَلِأَنَّ تَجْوِيزَ الْقَضَاءِ بِعِلْمِ الْقَاضِي يُفْضِي إلَى تُهْمَتِهِ وَحُكْمِهِ بِمَا يَشْتَهِي وَيُحِيلُهُ عَلَى عِلْمِهِ، لَكِنْ يَجُوزُ اعْتِمَادُ الْحَاكِمِ عَلَى عِلْمِهِ بِالِاسْتِفَاضَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَظْهَرِ الْبَيِّنَاتِ؛ وَلَا يَتَطَرَّقُ إلَى الْحَاكِمِ تُهْمَةٌ إذَا اسْتَنَدَ إلَيْهَا فَحُكْمُهُ بِهَا حُكْمٌ بِحُجَّةٍ لَا بِمُجَرَّدِ عِلْمِهِ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ. ذَكَرَهُ فِي الطُّرُقِ الْحُكْمِيَّةِ (إلَّا عَلَى رِوَايَةٍ مَرْجُوحَةٍ) قَالَ الْمُنَقَّحُ: وَقَرِيبٌ مِنْ مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ عَمَلُ الْحُكَّامِ بِصُورَةٍ تُسَمَّى بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ (قَبُولِي الشَّاهِدِ الْبَاقِي) مِنْ شَاهِدَيْنِ بَعْدَ رَفِيقِهِ (الْقَضَاءَ) لِعُذْرٍ، فَيَقْضِي بِمَا سَمِعَهُ بَيْنَ الْمُقِرِّ، وَقَدْ عَمِلَ بِالطَّرِيقِ الْمَشْرُوعِ كَثِيرٌ مِنْ حُكَّامِنَا وَأَعْظَمُهُمْ الشَّارِحُ. (وَيْحُكُمْ وَيَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي عَدَالَةٍ بَيِّنَةٍ وَجَرْحِهَا) بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِئَلَّا يَتَسَلْسَلَ؛ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى مَعْرِفَةِ عَدَالَةِ الْمُزَكِّينَ أَوْ جَرْحِهِمْ، فَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ فِي ذَلِكَ لَاحْتَاجَ كُلٌّ مِنْ الْمُزَكِّينَ إلَى مُزَكِّينَ، ثُمَّ يَحْتَاجُونَ أَيْضًا إلَى مُزَكِّينَ، وَهَكَذَا. (وَمَنْ جَاءَ) مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ (بِبَيِّنَةٍ فَاسِدَةٍ اسْتَشْهَدَهَا الْحَاكِمُ) لِئَلَّا يَفْضَحَهَا (وَقَالَ لِمُدَّعٍ زِدْنِي شُهُودًا) وَلَمْ يَقْبَلْهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}.

.فَصْلٌ: [اعتبارُ الْعَدَالَةِ فِي الْبَيِّنَةِ]:

(وَيُعْتَبَرُ فِي الْبَيِّنَةِ الْعَدَالَةُ ظَاهِرًا، وَكَذَا) وَتُعْتَبَرُ (بَاطِنًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَقَوْلُهُ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} وَقَوْلُهُ: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وَالْفَاسِقُ لَا يُؤْمَنُ كَذِبُهُ (لَا فِي عَقْدِ نِكَاحٍ) فَتَكْفِي الْعَدَالَةُ ظَاهِرًا، فَلَا يَبْطُلُ لَوْ بَانَا فَاسِقَيْنِ، وَتَقَدَّمَ. وَيُعْتَبَرُ فِي قَبُولِ (مُزَكِّينَ مَعْرِفَةُ حَاكِمٍ خِبْرَتَهُمَا بِصُحْبَةٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ) أَوْ جِوَارٍ، وَيُعْتَبَرُ، (مَعْرِفَتُهُمْ)؛ أَيْ: الْمُزَكِّينَ (كَذَلِكَ)؛ أَيْ: كَالْمَعْرِفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ (لِمَنْ يُزَكُّونَهُ) مِنْ الشُّهُودِ (فَلَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ بِهَا)؛ أَيْ: الْعَدَالَةِ لِأَنَّهَا شَرْطٌ (وَلَوْ قِيلَ إنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ) قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لِأَنَّ الْغَالِبَ الْخُرُوجُ عَنْهَا (أَوْ لَمْ يَطْعَنْ فِيهَا)؛ أَيْ: الْبَيِّنَةِ (الْخَصْمُ) فَيُجِيبُ الْعِلْمُ بِالْعَدَالَةِ كَالْإِسْلَامِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ (قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: مَنْ قَالَ إنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِنْسَانِ الْعَدَالَةُ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَإِنَّمَا الْأَصْلُ فِيهِ الْجَهْلُ وَالظُّلْمُ)؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} انْتَهَى.
فَالْفِسْقُ وَالْعَدَالَةُ كُلٌّ مِنْهُمَا يَطْرَأُ عَلَى الْآخَرِ، وَعَنْهُ؛ أَيْ: الْإِمَامِ أَحْمَدَ (تُقْبَلُ شَهَادَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ رِيبَةٌ) لِقَبُولِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَةَ الْأَعْرَابِيِّ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ. وَقَوْلِ عُمَرَ: الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ وَلِأَنَّ ظَاهِرَ الْمُسْلِمِ الْعَدَالَةُ لِأَنَّهَا أَمْرٌ، فَفِي سَبَبِهَا الْخَوْفُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، دَلِيلُهُ الْإِسْلَامُ فَإِذَا وُجِدَ اُكْتُفِيَ بِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، فَإِنْ جُهِلَ إسْلَامُهُ رُجِعَ إلَى قَوْلِهِ. وَقَوْلُهُمْ: ظَاهِرُ الْمُسْلِمِ الْعَدَالَةُ مَمْنُوعٌ، بَلْ الظَّاهِرُ عَكْسُهُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ إظْهَارُ الطَّاعَةِ وَإِسْرَارُ الْمَعْصِيَةِ. وَقَوْلُ عُمَرَ مُعَارِضُ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِشَاهِدَيْنِ فَقَالَ لَهُمَا: لَسْت أَعْرِفُكُمَا، وَلَا يَضُرُّكُمَا أَنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمَا، وَالْأَعْرَابِيُّ الَّذِي قَبِلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَهَادَتَهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ صَحَابِيٌّ، وَهُمْ عُدُولٌ. (وَيَكْفِي فِي تَزْكِيَةِ الشَّاهِدِ) عَدْلَانِ يَقُولَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا: (أَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلٌ) وَلَوْ لَمْ يَقُلْ: أَرْضَاهُ لِي وَعَلَيَّ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَدْلًا لَزِمَ قَبُولُهُ عَلَى مُزَكِّيهِ وَغَيْرِهِ، وَلَا يَكْفِي قَوْلُهُ لَا أَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا (وَيَكْفِي فِيهَا)؛ أَيْ: التَّزْكِيَةِ (الظَّنُّ، بِخِلَافِ الْجَرْحِ، وَتَجِبُ فِيهَا الْمُشَافَهَةُ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لَا إخْبَارٌ، فَلَا تَكْفِي فِيهَا رُقْعَةُ الْمُزَكِّي؛ لِأَنَّ الْخَطَّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الشَّهَادَةِ) وَهَذِهِ مِنْهَا (وَلَوْ رَضِيَ) مَشْهُودٌ عَلَيْهِ (أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ فَاسِقٍ، لَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ بِهَا)؛ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ حَقٌّ لِلَّهِ (وَبَيِّنَةٌ بِجَرْحٍ مُقَدَّمَةٌ) عَلَى بَيِّنَةٍ بِتَعْدِيلٍ؛ لِأَنَّ الْجَارِحَ يُخْبِرُ بِأَمْرٍ بَاطِنٍ خَفِيٍّ عَلَى الْعَدْلِ، وَشَاهِدُ الْعَدَالَةِ يُخْبِرُ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ الْجَارِحَ مُثْبِتٌ لِلْجَرْحِ وَالْمُعَدِّلُ نَافٍ لَهُ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَإِذَا عَصَى فِي بَلَدِهِ، فَانْتَقَلَ فَجَرَّحَهُ اثْنَانِ فِي بَلْدَةٍ وَعَدَّلَهُ اثْنَانِ فِي الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ، قُدِّمَتْ التَّزْكِيَةُ (وَتَعْدِيلُ الْخَصْمِ وَحْدَهُ) لِشَاهِدٍ عَلَيْهِ تَعْدِيلٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْبَحْثَ عَنْ عَدَالَتِهِ لَحِقَهُ، وَلِأَنَّ إقْرَارَهُ بِعَدَالَتِهِ إقْرَارٌ بِمَا يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَيْهِ لِخَصْمِهِ، فَيُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ (أَوْ تَصْدِيقِهِ)؛ أَيْ: الْخَصْمِ (لِلشَّاهِدِ) عَلَيْهِ (تَعْدِيلٌ لَهُ) فَيُؤْخَذُ بِتَصْدِيقِهِ الشَّاهِدَ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدُونِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ. (وَلَا يَصِحُّ مِنْ نِسَاءٍ تَزْكِيَةٌ وَتَجْرِيحٌ) لِقُصُورِ مَعْرِفَتِهِنَّ (وَلَا تَصِحُّ تَزْكِيَةٌ فِي وَاقِعَةٍ وَاحِدَةٍ) كَقَوْلِ مُزَكٍّ (أَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلٌ فِي شَهَادَتِهِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ) فَقَطْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْعَدَالَةُ الْمُطْلَقَةُ، وَلَمْ تُوجَدْ. (وَمَنْ تَثْبُتْ عَدَالَتُهُ مَرَّةً) بِأَنْ شَهِدَ فَعُدِّلَ، ثُمَّ شَهِدَ فِي قَضِيَّةٍ أُخْرَى (لَزِمَ الْبَحْثُ عَنْهَا)؛ أَيْ: الْعَدَالَةِ (مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ) بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ (عُرْفًا) لِأَنَّ الْأَحْوَالَ تَتَغَيَّرُ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ، فَإِنْ لَمْ تَبْطُلْ عُرْفًا لَمْ يُبْحَثْ عَنْ عَدَالَتِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ بَقَاؤُهَا. (وَمَتَى ارْتَابَ الْحَاكِمُ عَلَى عَدْلَيْنِ لَمْ يَخْتَبِرْ قُوَّةَ ضَبْطِهِمَا وَقُوَّةَ دِينِهِمَا؛ لَزِمَهُ الْبَحْثُ) عَمَّا شَهِدَا بِهِ (وَسُؤَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا عَنْ كَيْفِيَّةِ تَحَمُّلِهِ) بِأَنْ يَقُولَ: هَلْ هُوَ مَا شَهِدْت بِهِ أَوْ أَخْبَرْت بِهِ أَوْ أُقِرَّ عِنْدِي (بِهِ رُؤْيَةً أَوْ سَمَاعًا أَوْ إقْرَارًا وَمَتَى) تَحَمَّلْتَ الشَّهَادَةَ؟ لِيَذْكُرَ تَارِيخَ التَّحَمُّلِ، وَأَيْنَ تَحَمَّلْتهَا فِي مَسْجِدٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ بَيْتٍ؟ (وَ) يَسْأَلُهُ (هَلْ تَحَمَّلَ) الشَّهَادَةَ (وَحْدَهُ) بِأَنْ لَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ غَيْرَهُ حِينَ التَّحَمُّلِ، (أَوْ) كَانَ (مَعَ صَاحِبِهِ، فَإِنْ اتَّفَقَا) فِي جَوَابِهِمَا عَنْ ذَلِكَ (وَعَظَهُمَا وَخَوَّفَهُمَا) لِحَدِيثِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: كُنْت عِنْدَ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ وَهُوَ قَاضٍ بِالْكُوفَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَادَّعَى عَلَى رَجُلٍ حَقًّا، فَأَنْكَرَهُ فَأَحْضَرَ الْمُدَّعِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا لَهُ، فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ: وَاَلَّذِي تَقُومُ بِهِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَقَدْ كَذَبَا عَلَيَّ، وَكَانَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ مُتَّكِئًا، فَاسْتَوَى جَالِسًا وَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إنَّ الطَّيْرَ لَتَخْفِقُ بِأَجْنِحَتِهَا وَتَرْمِي مِمَّا فِي حَوَاصِلِهَا مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ شَاهِدَ الزُّورِ لَا تَزُولُ قَدَمَاهُ حَتَّى يَتَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» فَإِنْ صَدَقْتُمَا فَاثْبُتَا، وَإِنْ كَذَبْتُمَا فَغَطِّيَا رُءُوسَكُمَا وَانْصَرِفَا، فَغَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَانْصَرَفَا (فَإِنْ ثَبَتَا) بَعْدَ وَعْظِهِمَا (حُكِمَ) بِشَهَادَتِهِمَا بِسُؤَالِ مُدَّعٍ (وَإِلَّا) يَثْبُتَا (لَمْ يَقْبَلْهُمَا) قَالَ أَحْمَدُ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شُهُودِهِ كُلَّ قَلِيلٍ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ. (وَمَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ- لَا إنْ لَمْ يُقِمْهَا وَسَأَلَ حَبْسَ خَصْمِهِ) فِي غَيْرِ حَدٍّ حَتَّى تُزَكَّى بَيِّنَتُهُ أُجِيبَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَيُقَالُ لَهُ: إنْ جِئْت بِالْمُزَكِّينَ فِيهَا، وَإِلَّا أَطْلَقْنَاهُ (أَوْ أَقَامَ، بَيِّنَةً) وَسَأَلَ (كَفِيلًا)؛ أَيْ: بِخَصْمَيْهِ (فِي غَيْرِ حَدٍّ) حَتَّى تُزَكَّى شُهُودُهُ أُجِيبَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً وَسَأَلَ (جَعْلَ مُدَّعًى بِهِ) مِنْ عَيْنٍ مَعْلُومَةٍ بِيَدِ عَدْلٍ حَتَّى بَيِّنَتُهُ تُزَكَّى أُجِيبَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَقَامَتْ امْرَأَةٌ بَيِّنَةً بِطَلَاقِهَا، وَسَأَلَتْ (تَجَنُّبَ مُطَلِّقِهَا بَائِنًا إيَّاهَا) ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ (حَتَّى تُزَكِّي) بَيِّنَتَهَا أُجِيبَتْ إلَى ذَلِكَ، وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا احْتِيَاطًا، وَإِنْ أَقَامَتْ شَاهِدًا وَاحِدًا لَمْ يُحَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَثْبُتُ بِهِ طَلَاقٌ فَأَشْبَهَ عَدَمَهُ (أَوْ أَقَامَ) مُدَّعٍ (شَاهِدًا) عَلَى خَصْمِهِ (بِمَالٍ وَسَأَلَ حَبْسَهُ حَتَّى يُقِيمَ الْآخَرَ أُجِيبَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْبَحْثِ فِيهَا، فَلَا حَاجَةَ إلَى أَكْثَرَ مِنْهَا، بَلْ فِي حَبْسِهِ أَكْثَرَ مِنْهَا ضَرَرٌ كَثِيرٌ، وَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمُدَّعِي إحْضَارُ الْمُزَكِّينَ أَوْ الشَّاهِدِ الثَّانِي فِيهَا وَلَا يُحْبَسُ مُدَّعًى عَلَيْهِ (إنْ أَقَامَهُ)؛ أَيْ: الشَّاهِدَ مُدَّعٍ (بِغَيْرِ مَالٍ) وَسَأَلَ حَبْسَهُ حَتَّى يُقِيمَ الْآخَرَ (أَوْ سَأَلَ حَبْسَهُ لِغَيْبَةِ بَيِّنَةٍ) فَلَا يُجِيبُهُ (لَكِنْ يُجَابُ الْمُدَّعِي لِلْمُلَازَمَةِ) لِخَصْمِهِ (وَيَأْتِي، وَإِنْ جَرَحَهَا)؛ أَيْ: الْبَيِّنَةَ (الْحُكْمُ بَعْدَ تَعْدِيلِهَا، أَوْ أَرَادَ جَرْحَهَا، كُلِّفَ) الْخَصْمُ بِهِ؛ أَيْ: الْجَرْحِ بِبَيِّنَةٍ لِحَدِيثِ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» (وَيُنْظَرُ لِجَرْحٍ وَإِرَادَتِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) لِقَوْلِ عُمَرَ فِي كِتَابِهِ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: وَاجْعَلْ لِمَنْ ادَّعَى حَقًّا غَائِبًا أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ، فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً أَخَذْتَ لَهُ حَقَّهُ، وَإِلَّا اسْتَحْلَلْتَ الْقَضِيَّةَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ أَنْفَى لِلشَّكِّ وَأَجْلَى لِلْغَمِّ (وَيُلَازَمُ الْمُدَّعِي) فِي الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِئَلَّا يَهْرَبَ، فَيَضِيعَ حَقُّهُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يُحْبَسُ فِيهَا (فَإِنْ أَتَى بِهَا)؛ أَيْ: بَيِّنَةِ الْجَرْحِ عُمِلَ بِهَا، وَإِلَّا يَأْتِ بِهَا فِي الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ (حُكِمَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ عَجْزَهُ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ مُدَّعَاهُ مِنْ الْجَرْحِ. (وَيَتَّجِهُ ثُمَّ إنْ أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ)؛ أَيْ: بَعْدَ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ (بِبَيِّنَةِ جَرْحٍ عُمِلَ بِهَا) لِأَنَّهَا أَثْبَتَتْ أَمْرًا مُمْكِنًا سَابِقًا عَلَى الْحُكْمِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَلَا يُسْمَعُ جَرْحٌ لَمْ يُبَيَّنْ سَبَبُهُ) (وَيَتَّجِهُ بِاحْتِمَالٍ) أَقْوَى أَنَّهُ لَا يُسْمَعُ جَرْحٌ لَمْ يُبَيِّنْ جَارِحٌ سَبَبَهُ إنْ اخْتَلَفَ مَذْهَبُ قَادِحٍ وَحَاكِمٍ، أَمَّا (مَعَ اتِّحَادِ مَذْهَبِ حَاكِمٍ، وَمُجَرِّحٍ) بِأَنْ كَانَا يَرَيَانِ عَدَمَ بَيَانِ سَبَبِ الْجَرْحِ، فَيُسْمَعُ الْجَرْحُ، وَلَا يُكَلَّفُ جَارِحٌ بَيَانَ السَّبَبِ؛ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ (بِذِكْرِ قَادِحٍ فِيهِ عَنْ رُؤْيَةٍ أَوْ اسْتِفَاضَةٍ) بِأَنْ يَسْتَفِيضَ عَنْهُ ذَلِكَ؛ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي أَسْبَابِ الْجَرْحِ كَشَارِبِ يَسِيرِ النَّبِيذِ فَقَدْ يُجَرِّحُهُ بِمَا لَا يَرَاهُ الْقَاضِي جُرْحًا (فَلَا يَكْفِي) قَوْلُ شَاهِدٍ (أَشْهَدُ أَنَّهُ فَاسِقٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِعَدْلٍ أَوْ بَلَغَنِي عَنْهُ كَذَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (بَلْ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنِّي رَأَيْته يَشْرَبُ الْخَمْرَ) أَوْ رَأَيْته يَظْلِمُ النَّاسَ بِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ أَوْ ضَرْبِهِمْ أَوْ يُعَامِلُ بِالرِّبَا (أَوْ) عَنْ سَمَاعٍ مِنْهُ بِأَنْ يَقُولَ: (سَمِعْته يَقْذِفُ) وَنَحْوَهُ (وَيُعَرِّضُ جَارِحٌ بِزِنًا) أَوْ لِوَاطٍ. (فَإِنْ صَرَّحَ) بِالرَّمْيِ بِالزِّنَا (وَلَمْ تَكْمُلْ الْبَيِّنَةُ) بِأَنْ لَمْ يَشْهَدْ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ (حُدَّ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وَإِنْ أَقَامَ مُدَّعًى عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّ هَذَيْنِ الشَّاهِدَيْنِ شَهِدَا بِهَذَا الْمُدَّعَى بِهِ عِنْدَ حَاكِمٍ، فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا لِفِسْقِهِمَا بِطَلَبِ شَهَادَتِهِمَا؛ لِأَنَّهَا إذَا رُدَّتْ لِفِسْقٍ لَمْ تُقْبَلْ مَرَّةً ثَانِيَةً.
تَتِمَّةٌ:
وَإِنْ عَدَّلَهُ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ، وَجَرَّحَهُ وَاحِدٌ قُدِّمَ التَّعْدِيلُ؛ لِتَمَامِ نِصَابِهِ، وَإِنْ عَدَّلَهُ اثْنَانِ وَجَرَّحَهُ اثْنَانِ قُدِّمَ الْجَرْحُ وُجُوبًا، وَإِنْ قَالَ الَّذِينَ عَدَّلُوهُ مَا جَرَّحَاهُ بِهِ قَدْ تَابَ مِنْهُ قُدِّمَ التَّعْدِيلُ لِمَا مَعَ بَيِّنَتِهِ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ. (وَإِنْ جَهِلَ حَاكِمٌ لِسَانَ خَصْمٍ تَرْجَمَ لَهُ)؛ أَيْ: الْحَاكِمِ عَنْ الْخَصْمِ (مَنْ يَعْرِفُهُ)؛ أَيْ: لِسَانَ الْخَصْمِ.
قَالَ أَبُو حُمْرَةَ: كُنْت أُتَرْجِمُ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ «وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ قَالَ: حَتَّى كُنْت أَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتُبَهُ، وَأَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إذَا كَتَبُوا إلَيْهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. (وَلَا يُقْبَلُ فِي تَرْجَمَةٍ وَفِي جَرْحٍ وَفِي تَعْدِيلٍ وَفِي رِسَالَةٍ)؛ أَيْ: مَنْ يُرْسِلُهُ الْحَاكِمُ لِيَبْحَثَ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ (وَفِي تَعْرِيفٍ عِنْدَ حَاكِمٍ) وَأَمَّا التَّعْرِيفُ عِنْدَ شَاهِدٍ فَيَأْتِي فِي الشَّهَادَةِ (فِي حَدِّ زِنًا) وَلِوَاطٍ (إلَّا أَرْبَعَةُ) رِجَالٍ عُدُولٍ كَشُهُودِ الْأَصْلِ، (وَلَا) يُقْبَلُ فِي تَرْجَمَةٍ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا (فِي غَيْرِ مَالٍ) كَنِكَاحٍ وَنَسَبٍ وَطَلَاقٍ وَقَذْفٍ وَقِصَاصٍ (إلَّا رَجُلَانِ وَ) لَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ (فِي مَالٍ إلَّا رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) لِأَنَّهُ نَقَلَ مَا يَخْفَى عَلَى الْحَاكِمِ بِمَا يَسْتَنِدُ الْحَاكِمُ إلَيْهِ أَشْبَهَ الشَّهَادَةَ (وَذَلِكَ شَهَادَةٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ)؛ أَيْ: فِيمَنْ يُتَرْجِمُ أَوْ يَجْرَحُ أَوْ يُعَدِّلُ أَوْ يُرْسَلُ أَوْ يُعَرِّفُ (وَفِي مَنْ رَتَّبَهُ حَاكِمٌ يَسْأَلُ سِرًّا عَنْ الشُّهُودِ لِتَزْكِيَةٍ أَوْ جَرْحٍ شُرُوطُ الشَّهَادَةِ الْآتِيَةِ وَتَجِبُ الْمُشَافَهَةُ) فِيمَنْ يُعَدِّلُ أَوْ يَجْرَحُ وَنَحْوِهِ؛ فَلَا تَكْفِي كِتَابَتُهُ أَنَّهُ عَدْلٌ أَوْ ضِدُّهُ وَنَحْوُهُ كَالشَّهَادَةِ، وَإِذَا رَتَّبَ الْحَاكِمُ مَنْ يَسْأَلُ سِرًّا عَنْ الشُّهُودِ فَإِذَا شَهِدَ عِنْدَهُ مَنْ جَهِلَ عَدَالَتَهُ كَتَبَ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ وَكُنْيَتَهُ وَصَنْعَتَهُ وَسُوقَهُ وَمَسْكَنَهُ وَمَنْ شَهِدَ لَهُ وَعَلَيْهِ. وَمَا شَهِدَ بِهِ فِي رِقَاعٍ وَدَفَعَهَا إلَى أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ، وَيَجْتَهِدُ أَنْ لَا يَعْرِفَهُمْ الْمَشْهُودُ لَهُ وَلَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَلَا الشُّهُودُ، وَيَدْفَعُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ رُقْعَةً، وَلَا يُعْلِمُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَسْأَلُوا عَنْهُ، فَإِنْ رَجَعُوا بِتَعْدِيلِهِ قَبِلَهُ مِنْ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ، وَيَشْهَدَانِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ. (وَمَنْ نُصِّبَ لِلْحُكْمِ بِجَرْحٍ أَوْ تَعْدِيلٍ، أَوْ نُصِّبَ لِسَمَاعِ بَيِّنَةٍ؛ قَنَعَ الْحَاكِمُ بِقَوْلِهِ وَحْدَهُ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عِنْدَهُ) لِأَنَّهُ حَاكِمٌ أَشْبَهَ غَيْرَهُ مِنْ الْحُكَّامِ (وَإِنْ سَأَلَهُ حَاكِمٌ عَنْ تَزْكِيَةِ مَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ أَخْبَرَهُ) وُجُوبًا بِالْوَاقِعِ (وَإِلَّا) يَسْأَلْهُ الْحَاكِمُ عَنْهُ (لَمْ يَجِبْ) عَلَيْهِ الْإِخْبَارُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ.